بسم الله الرحمن الرحيم
جرياً على عادته اعتاد السلطان ( إبراهيم ) أن يخفي معالمه ويغيِّر من هيئته ، ويتجوَّل في الأسواق بعد صلاة الفجر ، قبل أن ترسل الشمس أشعتها الدافئة ، ليقف على أحوال رعيته بنفسه ، دون أن يعرفه أحد ، ويرى بعين بصره وبصيرته هموم الناس فيسعى في إزالتها ، وليدرك متاعب الحياة ومصاعبها فيحاول تذليلها .
وفي أحد الأيام وقف على باب دكان صغيرة في إحدى الحواري ، كانت لرجل حائك يحوك على قطعتين من الخشب ويترنم بأبيات من الشعر :
ربي أنت الرازقْ للعاصي و الآبقْ
تعطي من ترضاه ذهباً في صنادقْ
وأنا عبدٌ أشكو فقراً ، لا يفارقْ
إنْ تمنحني مالاً أشكرْ شكرَ الصادقْ
أو تتركني صِفراً أرضَ حكم الخالقْ
دخل السلطان دكان الحائك بعدما سمع كلماته وقد اخترقت نياط قلبه ، فوجدها صغيرة جداً لا يكاد المرء فيها يستطيع بسط ذراعيه .
ـ السلام عليكم ورحمة الله .
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . هل تريد بساطاً أقوم لك بحياكته ؟
ـ لا ، وإنما أريد التعرف عليك والحديث إليك .
ـ ومنْ أنا يا رجل حتى تتعرف علي وتتحدَّث إلي ؟ أنا عبدٌ من عباد الله طواه النسيان
وعضَّته الأيام ، وقلاه الغنى ، و آخاه الحرمان .
ـ سمعتك تشدو بأبيات شعرية ، فهل هي من قرضك ؟
ـ إنما هي كلمات مبعثرة تجري على لساني كلما ضاقت بي الدنيا .
ـ هل تسمح لي أن أساعدك ؟
ـ كيف ؟
ـ ( وأدخل السلطان يده في جيبه وأخرج كيساً من الدراهم ) خذ هذا المال واستعن
به على الأيام .
ـ معاذ الله أن أمدَّ يدي إلى مخلوق مثلي ، إنما أشكو أمري إلى الخالق وحده ، شكراً
لك ، خذ مالك وانصرف .
ـ يا رجل خذ هذا المال طوِّرْ فيه عملك ، وارقَ بحالك ، فأنا أخوك .
ـ أخي ؟ أين رجال السلطان ينقلون إليه حال العباد ؟ أم أنهم في ملذاتهم غارقون ؟
ـ ما رأيك لو عرفت أني أنا السلطان ؟
ـ وتسخر مني ؟ سامحك الله .
وبعد كثير من الكلام اضطر السلطان أن يكشف له أمره ، فبهت الحائك ، وأخذته الدهشة كلَّ مأخذ ، وانكبَّ على يد السلطان يريد تقبيلها ..ثم أخذ الدراهم ودعا للسلطان بطول البقاء .
غادر السلطان دكان الحائك وقد اعترته نشوة إيمانية حيث استطاع انتشال رجل من مخالب الفقر ، وحمد الله تعالى على ذلك .
لكن الحائك بدأت محنته ، كيف يدخل بالمال على زوجته ؟ وهل لها أن تصدقه ؟ وإنْ صدَّقته هل تستطيع ضبط أعصابها ؟ وإنْ ضبطتها هل تستطيع لجم لسانها وإبقاء الأمر طيَّ الكتمان حتى لا يشعر الجيران بالأمر ؟
فكَّر كثيراً ، ثم قاده تفكيره إلى أن يخفي المال في جرة قديمة في قبو المنزل ريثما يؤلف لها رواية مقنعة . وهذا ما فعله ، وكان كل يوم يدخل القبو ويطمئن على الجرة وما فيها إلى أن حدثت الكارثة .
رجع إلى بيته فلم يجد الجرة ، صرخ بأعلى صوته كالمجنون : يا امرأة أين الجرة التي كانت هنا ؟
ـ عفوك يا صابر ، كنت أنظف القبو فتعثرتْ رجلي ووقعت عل الجرة فانكسرت ، فألقيت بها خارجاً ، انظر إلى رأسي كيف تحطم .
خرج كالشهاب الثاقب خارج المنزل يبحث عن جرته لكنه عاد بخفي حنين .
استسلم لقضاء الله وقدره ، ورضي بقسمته سبحانه ، وقال في نفسه : (( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ))
وبعد بضعة أشهر أراد السلطان أن يرى آثار نعمة الله على صابر ، كيف تحسَّنت حاله و تبدَّلت معيشته ؟ فانطلق إلى دكانه ، ولما بلغها ترامى إلى أذنيه صوته وهو يشدو بالأبيات التي سمعها سابقاً . فتملكته الحيرة الممزوجة بالغضب .دخل عليه قائلاً
ـ السلام عليكم ورحمة الله .
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . أهلاً بك سيدي السلطان ( ثم أطرق خجلا )
ـ ما بك يا رجل ؟ أراك على حالتك التي تركتك عليها قبل مدة .
ـ أتصدقني إنْ حدثتك يا سيدي ؟ ( قالها ودموعه تسبق حروفه المتقطعة )
ـ نعم أصدقك ، فالمسلم لا يكذب أبداً .
وقصَّ عليه الأمر بدقائقه وثوانيه .
قال السلطان : هاك كيس من الدراهم آخر ، ولكن حذار من أن تضعه في جرة هذه المرة ، بل سارع في تنمية نفسك وعملك وتجارتك . ثم انصرف .
قال العم صابر : هذه المرة سأضعه في جيب معطفي الوحيد الذي ألبسه في الشتاء ، فهو في الخزانة قابع ، ونحن في فصل الصيف ، وحتى يحين الشتاء أكون قد تصرَّفت وأخرجته واستثمرته .
ولكنه لم يهنأ به أيضاً ، رجع إلى داره وعلى عادته فتح الخزانة فلم يجد المعطف ، نادى زوجته وسألها عنه فأجابته : لقد طرق بابنا هذا الصباح رجل متسول عار من الملابس فأشفقت عليه وأعطيته المعطف ، وقلت في نفسي : لعل الله يرزقك معطفاً جديداً ـ إذا ما داهمنا الشتاء ـ خيرا من معطفك القديم .
ويعود صابر إلى شعره وآهاته بنفس راضية بحكم الله ، ويأتيه السلطان ثالثة فيجده على ما تركه عليه ، ولما عرف منه الأمر قال له : إذا كان فجر الغد فائتني القصر ، ولا تتأخر فإني أريدك في أمر يجب قضاؤه قبل أن يفتح التجار متاجرهم .
لم ينم صابر هذه الليلة ، وأمسى يسبح بخياله في عالم الآمال والأحلام ، ترى ماذا يريد منه السلطان ؟ بل ماذا يخبئ له من مفاجآت ؟ فالسلطان حسن السيرة سخي اليد كثير العطاء ..
ولأول مرة يدخل صابر قصر السلطان ، فيجده بانتظاره ، ثم ينطلق به مع حاشيته إلى أحد أسواق المدينة المسقوفة ، وعند مدخل السوق يقف السلطان في موكبه ، ثم يومئ لأحد مرافقيه فيتقدم نحو صابر ويعطيه كرة من حديد ثم يتراجع .
ـ ماذا أفعل يا سيدي بكرة الحديد هذه ؟
ـ هذا السوق يا صابر هو من أملاك الدولة ، اقذف الكرة إلى أقصى ما تستطيع ، وعند استقرارها سيكون ريع المحال التجارية عن يمين السوق ويساره لك أنت .
اختلطت على صابر مشاعر الفرح والدهشة والذهول ، ولوَّح بالكرة ثم ألقى بها بكل ما أوتي من قوة .
ارتطمت الكرة بالسقف ثم هوت على رأس صابر فقتلته .
لا تسلني عن الألم الذي اعتصر فؤاد السلطان ، فلقد أحسَّ بضيق في صدره جعله يعتزل الناس ، وكان يلوم نفسه ويؤنبها على ما اقترفت ، ويستغفر ربه ويقرُّ بضعفه ، ثم أمر لأسرة صابر بمنزل جديد و مرتب شهري ، وبينما هو في ضيقه وكربه إذ غفا غفوة فجاءه في المنام عبد صالح يخفف عنه ، وقال له : أيها السلطان الصالح : لم الحزن ؟ أفقره ربه فأردتَ أن تغنيه . أماته فهل لك أن تحييه ؟؟ ثم تلا عليه من سورة فاطر : (( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ))